يأتي الغباء أحياناً على شكل نوبات .. نوبات مفاجئة تعتريك و أنت تسير فتوقف سيرك , و تنظر حولك ذاهلاً كأنك غريب عن هذه الدنيا التي ألفتها و ألفتك, و تنمحي ذاكرتك تماماً كأنك ولدت الآن و تريد أن تتعلم كل شيء من جديد . هل مررت قبلاً بتلك اللحظة العذراء ..؟؟
هل أحسست بالحاجة أن تخلع حذاءك هذا الذي يحجب عنك صلابة الأرض و ليونة التراب و هسيس العشب الأخضر يداعب أخمص قدمك العارية التي خبّأتها طوال عمرك في تلك الجلود المزيفة فتعطنت و تعفنت حتى فقدت القدرة على الإحساس بروعة الطين و قوامه اللزج الطري ..؟؟
هل شعرت على حين غرة أنك تريد أن تخلع ملابسك الأنيقة هذه أمام كل الناس ( لا يهم ) و تعانق أول نسمة صيف تمر لتهمس لها أنك تحب هذا العالم أكثر من أي شيء آخر ..؟؟
هل شعرت فجأة و أنت تجري كالمهووس وراء لذة تكاد تفلت أو صفقة تكاد تضيع أو ساق امرأة تكاد تغيب , أن ثمة جلبة تصطخب داخلك و نداءاً يصرخ فيك : توقف .. توقف .. فتتسمر مكانك مذهولاً ثم تصرخ بأعلى صوتك و أنت تنشج : يا رب .. يا رب .. غفرانك ..؟؟
هل زارتك نسمة مسائية ذات ليلة فأخبرتك أن ترمي عنك كبرياءك الزائف و كرامتك المصطنعة و قيود الرجولة التي قيدت بها روحك الظامئة , لتقوم من فورك و تعانق حبيبتك الغافية و تبكي على صدرها الحنون حزن طفولتك و جدب حياتك و عيونك التي اشتاقت أن تبكي منذ دهور ..؟؟
هل أتاك ملاك ذات ليل فأمسك بيدك الباردة و فتح نافذة روحك فرأيت النجوم لأول مرة , و القمر , و الليل , و السماء , و الملائكة , و تناهت إلى مسامعك ترانيم الكون تنشد النشيد الخالد : قدوس .. قدوس .. سبحانك .. فهتفت معهم تنشد و تضحك و تبكي و ترقص : قدوس .. قدوس .. سبحانك ..؟
هل مرت عليك لحظة شعرت فيها أنك من هذا الوجود , أنك تنتمي إليه , إلى طينه و مائه و بحاره و سمائه و غمامه و أشواقه و آلامه , ففتحت صدرك المغلق أبداً , و نزعت قلبك المسود شهوة و كرهاً و ضغينة , و رئتيك المتسختين دخاناً و قتاماً و سخاماً , و أحشاءك المتسرطنة غلاً و سادية و قسوة , ثم , ناديت و أنت ترتجف : يا رب .. هذا أنا .. فارغ كما خلقتني .. املأني سلاماً و حباً و طمأنينة من جديد , علمني كيف أحب من جديد . و كيف أتسلق الضوء من جديد , و أرسم الغمام من جديد , و أطير وراء الحمائم من جديد .
عندما تأتي تلك النوبات تتوقف في دماغك الأسئلة المعروفة التي تعودت تكرارها , لا تسأل لماذا أو كيف أو أين أو متى , لا تحملق في عقارب الساعة السامة , و لا تنتظر غانية تراقصك هذا المساء , و لا تحفل إن أتت الطائرة في موعدها , أو زادت نسبة التضخم عن حدها الطبيعي , أو انخفضت مؤشرات وول ستريت , أو انعقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة , أو زادت أسعار الذهب , أو انهارت أسعار القطن , أو أن اللحم هذا العام رخيص , أو إن كان زميلك في العمل يحبك أو يمقتك , أو ما هي آخر موديلات السيارات , أو من هي ملكة جمال العالم هذه السنة , أو أين يقضي عدوك اللدود إجازته السنوية , أو إن كان الخل حراماً أم حلال .
يصبح كل العالم فجأة ملك لك وحدك , تشكّله كيف تشاء , تحبه بطريقتك الخاصة و تضع بصمتك المميزة على البحر , و تغوص حتى ركبتيك في الرمال , و تصرخ بأقوى وتر بحنجرتك , و تغني السوبرانو , و تقلد القطار حين يصفر , و تطيّر طائرات ورقية في الفضاء و تبكي إن وقعت طائرتك فجأة . هل أنا أهذي ..؟؟ لا .. أنا مجرد غبي